الأربعاء، 22 يونيو 2016

رواية بلاتوه ... الفصل الخامس

(5)

قضت منى ساعتين بعد نزول أسامة مابين الاتصال به رغم إغلاقه الهاتف وبين انتظاره في الشرفة، حتى أنهكها التعب تمامًا وجلست تنتظره على السرير فنامت رغما عنها ورغم قلقها، استيقظت فزِعة على صوت لم تتبينه في البداية وبعد تركيز أيقنت أنه صوت زفة سيارات في الشارع. نهضت متباطئة وهي تنظر في الساعة وجدتها تخطت منتصف الليل بنصف ساعة فلم تشعر بنفسها ولا بالوقت في الساعات الماضية. بحثت في الشقة على أمل أن تجد أسامة قد عاد ولم تسمعه،
فلم تجده.. أعادت الاتصال به وكانت النتيجة كسابقاتها؛ الهاتف مغلق.
                           
ظلت تفكر فيم يمكن أن يكون حدث.. أو أين ذهب.. سيارته معطلة.. والدته تشاجر معها.. شقيقته في السعودية مع زوجها.. ترى أين ذهب؟؟ ظل لسانها يدعو الله أن يعود سالمًا ويطمئن قلبها عليه.
وقفت في الشرفة تنتظره.. تأخر الوقت وتألمت قدماها من الانتظار، زغللت عيناها من البحث بين المارة تارة وبين سيارات الأجرة التي تمر في الشارع تارة أخرى.
شعرت بالصداع.. عادت للسرير مرة أخرى، متمنية أن تطمئن حتى تستطيع أن تنام.
حدَّثَت نفسها:
-هوَّ انا كل ما اجي انام تحصل حاجة.. دماغي هتنفجر.
بعد قليل وأثناء تفكيرها، سمعت صوت باب الشقة، ابتسمت مطمئنة أن أسامة عاد وبخير. انتظرت مكانها وتظاهرت بالنوم لترى ماذا سيفعل.

سمعت وقع خطواته في الشقة.. تأخر قليلًا قبل وصوله لغرفة النوم فأيقنت أنه دخل يرى والدته في الغرفة الأخرى.. بعد قليل اقتربت خطواته من الغرفة.. أغمضت منى عينيها.
سمعته فتح باب الغرفة، ثم فتح الدولاب وأغلقه وخرج.

جلست منى بعد خروج أسامة.. تعجبت من دخوله وخروجه السريع ولم تفهم أين ذهب. أمسكت رأسها الذي يؤلمها وهي تفكر.. كيف تتصرف؟
نهضت متباطئة بعد أن اطمأنت أن أسامة مازال في الشقة لأنها لم تسمع صوت الباب، خرجت من غرفتها.. بحثت في المطبخ والحمَّام وانتهت بالغرفة الأخرى، وجدته قد بدَّل ملابسه ونام في الغرفة التي كانت تنام بها والدته. لم ترَ وجهه إن كان نائمًا أو مازال يقظًا.. استنتجت أنه لم ينم بعد.. اقتربت منه.. نامت بجواره.. أحاطته بذراعها.. التصقت به.. وألصقت وجهها في ظهره بعد أن قبلته.

لم يحرك ساكنًا.. ولم يبادرها الحديث.
فبادرت هي:
-قلقتني عليك أوي.. كنت رد عليا وبعدين اقفل التليفون.
ردَّ بنبرة حادة وهو يزيح يديها عنه:
-متقلقيش تاني.. كان لازم افكر لوحدي وخلاص فكرت وقررت.

جلس نصف جلسة وملامحه متجهمة.. جلست منى أمامه ونظراتها مثبتة على عينيه وسألته بتردد وترقب:
-فكرت ف ايه.. وقرار ايه اللي تقصده.
-نتطلق..
نطقها بسرعة وهو ينهض قائمًا من السرير وأكمل حديثه:
-أيوة انا خبيت عليكي عشان متخيرينيش.. غلطت اني خبيت عليكي كان لازم تعرفي كل حاجة وانتي تختاري.. كنت أناني ف تفكيري عشان بحبك وخايف اخسرك.. أنا هقولك على كل حاجة.
قاطعته منى ودموعها تنحدر:
-أنا عارفة كل حاجة من 4 شهور.
نظر لها بتعجب وعدم تصديق:
-عارفة ايه؟
-عارفة انك بتتعالج عشان اتأخرنا في الخلفة.
-عرفتي منين؟؟ الدكتور اللي روحت له يعرفك؟؟ هو اللي قالك؟؟ بس هو ميعرفش انك مراتي.
-محدش قالي.. أنا عملت تحاليل من سنتين ولما اتأكدت ان مفيش عندى أي حاجة تمنعني من الحمل سكت ورضيت ومحبتش أقولك تكشف عشان لو طلع عندك أي مشكلة متتضايقش.. لحد من 4 شهور لما شفت التحاليل اللي انت مخبيها.. التحاليل يا أسامة مفيهاش حاجة تقلق.. دي مشكلة عادية وعلاجها يمكن ياخد وقت.. وحتى لو مش هنخلف خالص أنا بحبك انت أكتر من طفل لسه معرفوش ومشفتوش.. أنا معرفتش الأمان إلا معاك انت.. أنا قلبي اتفتَّح على حبك انت.. إنت كل عيلتي اللي موعيتش عليها.. من يوم حادثة بابا وماما ولما خالتي الله يرحمها أخدتني عندها كانت هي وجوزها وحسن بيعتبروني واحدة من البيت بس أنا من جوايا كنت عارفة اني ضيفة وان بيتهم مش بيتي.. حسن طول عمره بيعاملني كأخته بس فرق السن الكبير اللي بيننا خلاني مفتقدة وجود الاخوات.. انت دخلت حياتي كنت كل عيلتي اللي اتحرمت منها.. شفت فيك الأخ والحبيب والزوج والابن كمان.. مبحسش بالأمان والراحة إلا ف بيتنا.. مبحسش بطعم الحياة إلا وانت فيها.. كل ده تقولِّي بكل بساطة قررت نتطلق؟!

أسامة كان يسمعها وهو يقف أمام الشباك نظراته معلقة بالفضاء لا يفصله عن الخارج سوى الرؤية الضبابية التي سببتها دموعه، ظل يستمع لها دون قدرة على مقاطعتها أو النظر إليها.. يحبها حقًا.. ولكنه يكره أن تراه في موقف ضعف.
انتهت من حديثها.. ظلَّ صامتًا.

لحظات الصمت الثقيل تمر وتنتظر منى أي تعليق منه على حديثها، لم تجد ردًا.. اقتربت منه.. استدارت لتقف أمامه وواجهته
-متاخدنيش بذنب مش ذنبي.
أجهشت بالبكاء.. أسندت رأسها على صدره وهي تكمل:
-الصبح جرحتني لما قلتلي ان مامتك عندك أهم منى وسكتت وكنت طول اليوم مستنية منك مكالمة حتى لو هتقولي انتي فين.. ولما رجعت ملحقتش اكلمك وحصل اللي حصل وغضبت ونزلت مع انه مش ذنبي وانا ولا اعرف حاجة عن إن مامتك لقيت الدوا.. كنت هموت من القلق عليك ومستنياك لمجرد اني اطمن عليك.. قلت لنفسي مش هعاتبك على أي حاجة بس كفاية انك تكون جنبي.. وبعد كل ده الاقي رد فعلك بمنتهى القسوة وانا معملتش حاجة.. أنا مش عايزة غير انك تحن عليا يا أسامة.. كتير عليا؟؟

ظل أسامة ثابتا ينظر في الفضاء ومنى تبكى بين ذراعيه.. حائرًا بين الرغبة في ضمها إليه بقوة والاعتذار لها عن كل ما بدر منه وما بين التصميم على ما وصل إليه بتفكيره وقراره بالطلاق حتى لا تطلبه منه في أحد الأيام.. رُدِّدَت كلمات منى الأخيرة في أذنه: "مش عايزة غير إنك تحن عليا".
ضمها بقوة واستسلم لدموعه ولم يخفِها.. قبَّل شعرها وهي مازالت تبكي بين يديه:
-متزعليش يا منى.. أنا خايف .. خايف ييجي اليوم اللي تسيبيني فيه عشان كده بقسى عليكي.. الصبح لما قلتلك ماما أهم عندى عشان تبطلوا خناق مش أكتر.. أنا جيت عليكي عشان مقدرش اجي عليها مهما كان هي أمي اللي ضحت كتير علشاني انا وأختي.. ولما قلت نتطلق كان برضه عشان تيجي منِّي انا ومتطلبيهاش وتكسريني.
نظرت له منى بتعجب.. سألته:
-ايه اللي حصلنا يا أسامة.. كنا أقرب لبعض من كده.. ليه بعِدنا أوي بالشكل ده.
أخذ يديها وأجلسها بجواره على حافة السرير:
-أنا عارف السبب.
سألته منى باهتمام
-ايه السبب؟؟ أنا قصرت ف حاجة؟
-السبب فيا أنا مش فيكي.
قاطعته منى:
-بس يا أسامة.. مش عايزين نتكلم في اللي فات.. عايزين نرجع لبعض تاني زي الأول.. أقرب كمان من الأول.. مش عايزين ظروفنا ولا مشاكلنا تبعدنا تاني عن بعض.. ومتجيش عليا تاني.. انت عارف اني معترضتش على وجود مامتك بس هي صعبة أوي ومع ذلك أهلا بيها البيت بيتها.. المهم انك متظلمنيش.. متبقاش انت وهي عليا.
-بتحرجيني بالذوق يا منى.. عاقبتيني بعقلك وقلبك الكبير.
-ربنا عالم اني بتكلم معاك من قلبي.. ولا قاصدة احرجك ولا اعاقبك.
ضمها إليه بحنان وحب.. ابتسمت منى بسعادة واطمئنان وصوت نجاة الصغيرة يتردد داخلها ويتراقص مع دقات قلبها "ما أحلى الرجوع إليه".

                         *********************

في نفس التوقيت، وفي مكان آخر.. بعيدًا جدًا.. في شقة «أماني» شقيقة أسامة في مدينة نجران بالسعودية.. تجلس أماني في حجرتها.. أضواء المنزل كلها مطفأة
تقلِّب في مجلة قديمة بملل شديد.. نظراتها معلقة على الكلمات ولكن عقلها بعيدًا جدًا.. عقلها في مصر بجوار والدتها.. حضرت لزوجها منذ شهرين فقط.. ولكن بعد أول أسبوع ندمت كثيرًا أنها ألحَّت عليه في استقدامها.. تقدم لها «سيد» تقليديًا عن طريق إحدى الجارات.. فرِحَت به كما فرحت به والدتها عندما جاء لزيارتهما..محاسب ويعمل في السعودية، يكبرها بعامين فقط، وسيم، لَبِق، ذوق.. صارحهم بأنه في بداية حياته العملية، وأنه يساعد نفسه بنفسه ماديًا، وأنه يريد الاستقرار وتكوين أسرة بما يتناسب مع قدراته.

تردد أسامة في البداية، ولكن أماني ووالدتها كان يشغلهن الثلاثون عامًا "عُمر أماني" وقلة طالبي الزواج منها لا لعيب ما فيها، ولكن لعدم مشاركتها في الحياة العملية فهي لم تعمل من بعد تخرجها من الجامعة ولا تخرج إلا لزيارة الأقارب مع والدتها.. كادت أماني أن تفقد أملها في الزواج.. لكن بظهور سيد في حياتها تبدَّل الحال وكادت تطير من السعادة عندما تمسَّك بها سيد وطلب منها أن تقف بجواره حتى يتسنى لهما تكوين أسرة معًا. وافقت على الارتباط به دون شبْكَة أو زفاف أو شقة. اتفق مع أسامة أن يتم الزواج في أحد الفنادق في فترة الإجازة بدلًا من أن يتم فرش شقة وتُغلق لدواعي السفر ثم يسافر ويترك أماني حتى ينتهي عقد عمله ويعود ويؤسس شقته.

وافق أسامة على مضض بعد إلحاح أماني ووالدته.
تم الزواج في خلال شهرين الإجازة.. وتزوجا في أحد الفنادق المتوسطة.. أسبوع وودعها وسافر.. انتظرته عامًا بكل شوق ولهفة، لم يربطهما سوى الرسائل المتبادلة من خلال الإنترنت.. حتى عاد في إجازة.. عاد محملًا بخيبة الأمل والشكوى من ضائقة مالية يمر بها. تحملت ظروفه القاسية واستضافته طوال فترة الإجازة في بيت والدتها.. حتى انتهت الإجازة وأُعيدت الكرة مرة أخرى.
عام آخر من البعاد والرسائل المتبادلة عن بعد.. عام آخر وأماني لم تشعر بأنها تزوجت.. فمازالت تسكن بيتها.. تنام في نفس غرفتها.. تعيش وحيدة والاسم زوجة.
قررت أن تطالب زوجها بالعودة أو باستقدامها، رفض سيد بحجة أن مكان سكنه يناسب رجل أعزب ولا يناسب زوجين.. ألحت أماني.. زادت في إلحاحها وأخبرته أنها راضية بكل الظروف في مقابل أن يعيشا معًا.. ومع الإلحاح المتواصل.. وافق سيد.. وسافرت أماني وهي ترسم في أحلامها حياة مستقرة سعيدة بعد حرمان عامين تزوجت فيهما شهرين وأسبوع.
ولكن.. أبي القدر أن يحقق لها غايتها، فوجدت حياة عكس ما تتمنى.. بعد أسبوع.. وبعد أن ذهبت السَكرة وجاءت الفكرة، وجدت شخصًا آخر لم تعرفه ولم تألفه من قبل.. فبعد صدمتها الأولى من الشقة الضيقة جدًا التي يعيش بها سيد، وأثاثها المتهالك والذي علمت بعدما سألته أنه قديم ومستعمل، وجدت شخصًا بخيلًا ماديًا يتكتم الحديث عن راتبه أو خصوصياته المادية، منعزلًا عن زملائه حتى لا يزورهم أو يزوروه حتى لا يتكلف أعباء اجتماعية مادية في غير قدرته على حد قوله.

سمعت صوت الباب ووصول سيد.. نهضت لاستقباله مبتسمة.. فعلى الأقل وجوده يخفف من وحدتها حتى لو كان نائمًا.. لفت نظرها دخوله خاوي اليدين.. فسألته:
-انت مجبتش عشا؟
رد متعجبًا:
-ايه يا أماني ده.. فيه واحدة أول ما تستقبل جوزها تسأله جبت عشا؟
-أسفة.. حمدالله ع السلامة.
ردَّ وهو يتجه نحو غرفة النوم وهي خلفه:
-الله يسلمك.. حضرى العشا بسرعة الله يكرمك.
-أحضَّر ايه يا سيد.. ما انا بسألك اهو جبت عشا؟
-مش فيه أكل هنا؟
-لأ مفيش.
-ازاي.. أنا نازل وكان فيه بيضتين وييجي 3 حتت جبنة رومي.
ردت باستغراب:
-وهو ده العشا اللي كنا هنتعشاه.. أنا جعت وعملت البيضتين وأكلتهم.
احمرَّ وجهه غضبًا بينما احمرَّ وجهها خجلًا عندما سألها متأكدا:
-أكلتيهم.. الاتنين؟؟
ردت بصوت خافت:
-إنت هتعد عليا الأكل.. دول بيضتين.
جز سيد على أسنانه وهو يحاول أن يبدو هادئًا.. وابتسم ابتسامة مصطنعة وهو يردد:
-لا أبدًا.. أنا بس مش عايزك تتخني.. خلي بالك الأكل الكتير هيتخنك وانا محبش الست التخينة.
-لا متقلقش.. أنا بقالي سنين أصلا بحاول اتخن شوية حتى 5 كيلو عشان اوصل للوزن المثالي ومفيش فايدة.
-طيب اعمليلي اتعشى.. انتي طبعا مش هتتعشي مرتين هه هه.
كم تمنت أن تلكمه في أسنانه التي ظهرت من بين ابتسامته المزيفة تلك.. لم تكن المرة الأولى التي يمرر لها رسائل جادة في صورة دعابة سخيفة تتحملها.. فهي ليست غبية وتتمكن بسهولة بعد عِشرة شهرين أن تميز طباع زوجها، أفاقت من شرودها على صوته وهو يردد:
-العشا يا أماني.

دخلت المطبخ.. لم تجد سوى لقيمات قليلة من الخبز والجبن الرومي.. وضعتهم له في طبق وقدمتهم له:
-اتفضل.. ده الموجود.
تناولهم منها ببساطة واعتياد:
-يا سلام.. فضل ونعمة.

جلست أماني أمامه تنظر له في دهشة وهو يتناول طعامه، لم يدعوها ولو بالكذب لتشاركه الطعام.. ضاقت به.. نظرت حولها شعرت أن الجدران تكاد تطبق على أنفاسها تخنقها أكثر .

انتهى من تناول طعامه.. اتجه لغرفته، عندما وصل للباب.. التفت لها قائلًا
-إنتي هتفضلي قاعدة عندك؟
-فيه حاجة؟
-اه.. تعالي جنبي شوية.
-انت مش جاي من الشغل تعبان.. نام انت وارتاح.
-ما انا هرتاح برضه.
فهمت أماني ما يلمح له.. لكنها كانت في حالة من النفور وصلت لأقصى درجة ممكنة.
فكرت في أقل من الثانية أن الصراحة لا تفيد في كل الأحيان، فابتسمت وقالت له
-مش هينفع يا سيد.
-ليه؟
نظرت للأرض وتصنعت الإحراج:
-مش هينفع.. افهم.
دخل حجرته وهو يعلق:
-طيب.. تصبحي على خير.
بمجرد أن التفت وأعطاها ظهره، شعرت بدوار.. أمسكت معدتها التي شعرت بانقلابها، رددت داخلها: "لا.. مش قادرة أكتر من كده".
واتخذت قرارًا كانت تفكر به وأصبح لا مفر من اتخاذه والعمل على تنفيذه.