الاثنين، 22 يونيو 2015

رواية بلاتوه ... الفصل الأول

(1)
فتحَتْ «نادين» عينيها على صوتِ نغمة رنين هاتف زوجها.. لمحت الشروق من خلف ستارة غرفة النوم.. سمعته يرد بهمس وهو يخرج مسرعًا من الغرفة: "ألو.. أيوة.. مالها بالظبط؟"
لم تسمع أكثر من ذلك سوى صوت الباب يُغلَق.. نظرت في الساعة بجوارها، وجدتها الخامسة والنصف صباحًا..

نهضت بخطوات متباطئة.. فتحت الباب في نفس اللحظة التي عاد فيها زوجها.
-إنتي صحيتي؟
-أه.
-أكيد صوت التليفون صحاكي.
-أيوة.

دخل حمَّام غرفة النوم.. خرج بعد أقل من خمس دقائق، بينما كانت نادين جالسة تنتظره.. سألتْه:
-انت نازل؟
-أيوة.. أنا آسف ان صوت التليفون صحَّاكي.
-يا«حسن» يا حبيبي انت ملحقتش تنام.. إنت راجع الساعة 2ونص منمتش 3 ساعات على بعض.
-أعمل ايه بس يا حبيبتي.. شغلي.. نامي انتي وكمِّلي نومك.

صمتت نادين تفكر في ال15 سنة الماضية.. سنوات زواجها من حسن الذي عشقته بكل جوارحها..
تعلم أنه يبادلها العشق.. ولكن ماذا حدث في السنوات الثلاث الأخيرة؟ ذبل حبه؟ لا.. لا يمكن أن يقل حب حسن لها.. ملل.. خرس زوجي كما يُقَال؟
ربما.. ولكن من أين سيأتي الملل وهي متجددة باستمرار؟!

قطع أفكارها ضم حسن لها وطبْع قُبلة على جبينها بعدما انتهى من ارتداء ملابسه:
-كمِّلي نومك وانا شوية وراجع إن شاءالله.
-هستناك.
-ليه؟!.. نامي انتي وارتاحى، إفرضي اتأخرت.
-أنا مبقاش بيجيلي نوم وانت بعيد يا حسن.. أنا نومي بقى ملخبط بسبب شغلك.
-حقك عليا.. غصب عني.. أنا هنزل بقى عشان متأخرش على اللي مستنياني.. حرام اسيبها كده.
-ماشي يا حبيبي.. ربنا معاك.

أوصلته حتى الباب.. قبَّلته وودَّعته وأغلقت الباب.
عادت إلى غرفتها.. اتجهت لسريرها.. عدلت من قرارها بمحاولة النوم لمحاولة التسلية إلى أن يعود.. وقفت أمام مكتبة الأفلام.. انتقت فيلمًا تحبه.. وضعته في الـــ”DVD” وضغطت "تشغيل"..
جلست تشاهد الفيلم.. وأوقفت الصورة على اسمها النجمة «نادين» ابتسمت وهي ترى اسمها لامعًا على الشاشة، اجتاحتها لحظات حنين للفن الذي هجرته من أجل الحب.. حنين لم تنجح يومًا في قتله.. على عكس ما تتظاهر به من أنها نسيَتْ الفن تمامًا.
أعادت تشغيل الفيلم.. ورجعت بظهرها للخلف.. كل مشهد كانت تراه، تتذكر معه كواليس التصوير.. أيام جميلة قضتها مع زملائها كُلِّلَت بسعادتها بنجاح الفيلم، ولكن أروع ما في تلك الأيام.. هو ذكريات تعارفها بحسن في ذلك الوقت.
بلاتوه التصوير
يُجرَى التحضير للمشهد على قدمٍ وساق.. المخرج يطلق صرخاته يريد الانتهاء من المشهد الذي يحضِّر له من الصباح.. عُمَّال الإضاءة، الديكور، التصوير، كل منهم يتمم على عمله، كل شيء على ما يرام.

ينادي المخرج"فين نادين؟"
تأتي نادين بعدما انتهت من ارتداء ملابس التصوير والماكياج الخاص به، تقف مساعدتها وقتذاك «هناء»، تنتظرها وتستمتع بالمشاهدة ..
هدوء تام.. كلاكيت..
تندمج نادين في المشهد الذي تمثله.. المشهد يتطلب تركيزًا عاليًا؛ فلايوجد حوار ولا ممثل آخر أمامها.. فقط تمثل بعينيها وبحركات جسدها..
صمت مطبق.. حتى الأنفاس محبوسة.
يخترق الصمت صرخة عالية.. يلتفت الجميع لمصدر الصراخ، تجد نادين مساعدتها هناء على الأرض تبكى وتصرخ، تقبل عليها مسرعة.. تباعد مابين الجمع الواقف حولها:
-مالك ياهناء؟
-مش عارفة.. بسقَط ولا بولِد مش عارفة.. تعبانة أوي.
تكمل صراخها.. ترتبك نادين فزِعة:
-انتي مش لسه في السادس.. ايه اللي حصل؟
تبكى هناء.. لا تجد ردًّا..
يقترح أحد الموجودين " نطلب الإسعاف".
نادين: أنا لسه هستنى الإسعاف.. أنا هاخدها حالًا على المستشفى.. حد يساعدني نسندها لحد العربية.

تصل نادين على أقرب مستشفى خاص.. نادين وهناء وحدهما.
هناء بالنسبة لنادين ليست مساعدة فقط.. فهي تعتبرها صديقة مقربة.. معجبة بإرادتها ورغبتها في عيش حياة كريمة باجتهادها رغم كل ما مرت به من ظروف وفاة والدها ومرض والدتها.. عملها بجوار دراستها حتى حصلت على دبلوم التجارة.. قوَّتها في صدِّ أية محاولة من رجل بلا مبادئ بالتقرب منها واستغلال حاجتها المادية.

تعرفا في ظرفٍ عادي.. أحضرها البواب لوالدة نادين لتنظيف الشقة، تعودت أن تحضر للتنظيف مرتين في الأسبوع، أمانتها وحلاوة لسانها جعلاها تدخل قلب نادين ووالدتها من أوسع الأبواب.
ومع ظهور أول فرصة لنادين في بطولة فيلم كوجهٍ جديدٍ، طلبت من هناء أن تكون معها دائمًا وتترك عملها بالبيت.

على مدار أربع سنوات لم تستطع هناء مفارقة نادين، حتى بعد زواجها.. قررت الاستمرار في العمل معها. لم تجد معارضة من زوجها.. فهو سافر للعمل بعد الزواج بشهرين، تاركًا قرار العمل في يد هناء وحدها.. تبعًا لما تتحمله قدرتها دون إجبارٍ منه على الاستمرار من عدمه.
ترجَّلت نادين من السيارة مسرعة.. طلبتْ من أحد الممرضين مساعدتها لاستقبال الحالة التي بصحبتها.
"د.حسن شاهين"..
ردت عليها إحدى الممرضات عندما سألتها نادين عن طبيب النساء الموجود بالمستشفى.
لم تسمع نادين اسمه من قبل.. ربما لأنها لم تحتَج حتى الآن لدكتور أمراض نساء وولادة وهذه هي المرة الأولى التي تتعامل فيها مباشرة مع حالة ولادة.. وربما إجهاض.. وحتى الآن لم تتضح حالة هناء بعد..
سألتها نادين مرة أخرى:
-طيب هو فين؟؟ هيسيبها كده.
ردت الممرضة بابتسامة:
-متقلقيش.. احنا دخَّلنا الحالة العمليات وزمان دكتور حسن دخلها خلاص.
جلست نادين قلقة.. بينما استطردت الممرضة:
-هو حضرتك مفيش فيلم جديد قريب؟
حاولت نادين أن تتغلب على قلقها بصعوبة وردت مبتسمة:
-فيه قريب إن شاءالله.. إحنا بنصور حاليًا.
-هيَّ اللي معاكي دي قريبة حضرتك؟
-يعني.. حاجة زي كده.
-ربنا يقومها بالسلامة إن شاءالله.
-يارب.. هو الدكتور ده كويس؟
-طبعًا.. دكتور حسن ماشاءالله عليه.. ممتاز.

بعد ساعتين..
كانت نادين تحتسي القهوة في مكتب "د. حسن".. سألته عن حالة هناء بالتفصيل:
-هىَّ دلوقتي كويسة
-كويسة ازاي .. دي بتتألم أوي.
ابتسم وهو يطمئنها:
-أكيد لازم تتألم.. مش خارجة من عملية قيصرية.. بس بالنسبة لنا هي كده بخير العملية تمام وفاقت واتكلمت الحمدلله.
-الحمدلله.. والبيبي؟؟
-هو حاليًا في الحضَّانة.. بس مقدرش أأكد هيعيش ولا لأ.
-يارب يعيش.. لو حصل حاجة هحس بالذنب.
-ليه؟؟ذنبك ايه؟
-الفترة اللي فاتت كنت بشتغل كتير وهي معايا دايمًا.. يعني انا السبب في تعبها ده كله.
-هوِّني على نفسك.. ده كل شيء نصيب.. ياما ناس بتولد في التاسع وبتكون مرتاحة ومبيحصلش نصيب وياما ناس بتولد بدري عن معادها والطفل بيعيش.
-ربنا يستر.
نهضت نادين لتعود لهناء مرة أخرى قائلة:
-ميرسي يادكتور.
نهض بدوره هو الآخر.. اتجه خلفها لباب المكتب، وقبل أن تخرج.. بادرها قائلًا:
-هطَّمئن عليها بالليل إن شاءالله.
سكت قليلًا وسألها:
-هتكوني موجودة؟
ردَّت بتلقائية:
-أكيد.
مدَّ يده يصافحها:
-يبقى اشوفك بالليل إن شاءالله.
مدت يديها صافحته.
لم تستطع الرد.. فقد تجمعت كل أحاسيس الدفء والأمان في لمسة يده ليدها، رفعت عينيها لعينيه.. وجدت بريقًا جذبها في هوّة عميقة فصلتها عن الزمان والمكان.. حديثٌ صامت دار بينهما.. لا يسُمَع بالأذن.. فقط القلوب هي من تستطيع فك شفرته.

تنهدت نادين بعدما أفاقت من ذكرياتها، أكملت الفيلم وهي تتذكَّر كيف تطوَّر الحب بينهما بسرعة، وفي وقت قليل نسبيًا.. وبعد الانتهاء من الفيلم صارحها حسن برغبته في الزواج منها.. ولكن.. شرط أن تكون زوجة فقط.. زوجته وحبيبته ورفيقة دربه، وأن تترك الشهرة والأضواء والفن ليستطيعا تكوين أسرة مستقرة.
أخذت وقتًا في التفكير كما طلب منها حسن ووعدها أنها لن تندم أبدًا إذا اختارته
عانت ليالٍ طويلة من صراع بين حبين؛ حبها لحسن وحبها للفن.. قررت أن تختار الفن.. ومع أول أيام الفراق انهارت قوتها في المقاومة واتصلت بحسن وأخبرته باختيارها له.

ونفَّذ حسن وعده بأنها لن تندم.. فبعد عام من الزواج وبعد أن كُلِّلت سعادتهما بوجود لميس في حياتهما، وجدت أن السعادة تتمثل في بيتها وزوجها وابنتهما
كان نعم الزوج المحب المتفاني في إسعاد زوجته وابنته، لكن.. الثلاث سنوات الأخيرة...

*********************
وصل حسن بعد أقل من ساعة لمركز الولادة الذي يمتلكه، يحتل المركز الدور الأول علوي كاملًا في برج سكني، يحتوى على غرفتي عمليات وغرف متعددة للحالات، بالإضافة لغرفة كبيرة إدارية تشمل الحسابات وشئون العاملين.. غير عيادته الملحق بها غرفة انتظار وعيادة أخرى لـ «منى» مُلحَق بها غرفة انتظار، وغرفة استراحة الممرضات، وكافتيريا صغيرة ملحقة بمطبخ كبير.
كان في انتظاره زوج الحالة التي فاجأها المخاض.. بعد توقيع الكشف عليها طمأن أهلها: "متقلقوش.. لسه قُدَّامها شوية.. أنا ف مكتبي وهجيلها كل نص ساعة".
وأمرَ الممرضة الموجودة برفقته:"خليكي متابعاها لو لقيتيها قربت ناديلي".
دخل مكتبه، وقف أمام المكتبة.. أخذ كتابًا وجلس على المكتب.. نظر نظرة خاطفة لصورته مع نادين ولميس، فتح الكتاب الذي بين يديه، وبعد قراءته لأول صفحة، سمع طرقات الباب، وفُتِح الباب، ودخلت دكتورة منى ابنة خالته وزميلته في المركز:
-صباح الخير ياحسن.
-منى!! صباح النور.. ايه اللي جابك بدري كده.
جلست أمامه وأرادت أن تغير مسار الحديث فسألتْه:
-إنت مروَّحتش من امبارح؟
-لا روَّحت وجيت من شوية.
-فطِرت؟
-لأ لسه.
-طيب، أنا هقوم اجيب حاجة من الكافتيريا.

خرجت منى من المكتب.. وحسن يتابعها بعينيه. غابت خمس دقائق وعادت مرة أخرى:
-ثواني ويجيبولنا ساندويتشات وشاي.
نظر لها حسن في عينيها.. وجدهما ذابلتين.
-مالِك يا منى.
اغتصبت ابتسامة وهي تجيبه:
-مفيش حاجة.
دقَّق النظر في عينيها:
-مش عليا يا منى.. مالِك؟
اغرورقت عيناها بالدموع وفشلت في كتمان ما يحمله قلبها:
-أنا خلاص تعبت يا حسن.. حتى بيتي مش عارفة ارتاح فيه.. إنت عارف أنا جايَّة بدري ليه؟
-ليه؟
-عشان انام شوية.. سايبة بيتي وجاية انام على سرير مستشفى عشان مش لاقية راحتي ف بيتي.
-حماتك برضه؟
-أيوة.. بقت لا تطاق بجد.
-ايه الجديد.
-الجديد ان قُعَادها عندى بقى أمر واقع وبتتحكم في البيت كأنه بيتها.
-وأسامة؟
-كل ما اكلمه يقولّي امي ومقدرش اسيبها بعد ما اختي سافرت لجوزها.
-تحبي اكلمه.
-زي قِلِّته يا حسن.. هيرد عليك بنفس الكلام.
أخرج حسن مفتاحًا صغيرًا من درج مكتبه.. ناوله لمنى:
-ده مفتاح المكتب.. لما نخلَّص فطار هروح أمرّ على الحالات واقفلي على نفسك ونامي هنا.. السرير هنا مُريح مش هيتعبك.
تناولته منى وابتسمت له شاكرة.
قاطعهما عامل الكافتيريا الذي أحضر الإفطار، تركه على طاولة صغيرة وخرج.

تناولا إفطارهما معًا..
كانت منى تتناول الطعام بحزنٍ وهي شاردة، بينما يتابعها حسن بقلبٍ يرق لحالها.

قاطعهما دخول الممرضة:
-دكتور حسن.. المدام خلاص الطلق زاد عليها أوي.
-دكتور مختار جه ولا لسه؟
-لسه.
انفعل حسن وأكمل بصوت مرتفع:
-ازاي لسه مجاش لحد دلوقتي.. أنا مكلمه من قبل ما اجي.
ارتبكت الممرضة ولم تجد ردًّا.
سألته منى:
-هيَّ مش هتولد طبيعي.. عايز مختار في ايه؟
-عايزُه أو مش عايزُه.. كلمته يبقى ييجي مش يتأخر كده.. افرضي كانت هتولد قيصري ميبقاش دكتور التخدير موجود.

أمسك حسن تليفونه، وأجرى اتصالًا بمختار ومنى والممرضة تترقبان ثورة حسن على مختار.. يزفر حسن زفرة حادة قائلًا: "كنسل عليا".
يسمع صوت مختار قريبًا.. يدخل المكتب:
-كنسلت عشان وصلت.. أنا تحت أمرك يا دكتور.
-خليك جاهز يمكن احتاجلك.

تركه حسن في المكتب مع منى.. وخرج مع الممرضة ليلحق حالته.

هناك 6 تعليقات:

  1. السلام عليكم ،،مشاهد رائعة جدا ،،واقول (مشاهد) لأني حسيت فعلا وانا باقراها اني اراها امامي متجسدة بتوازن جميل بين مشاهد الحركة الخارجية والمشاهد النفسية او العاطفية ،،تصل للقارئ بسلاسة مصورة مايدور بكاميرا المبدعة أ.دينا عماد،، اقول شكرا لك وسلمت يداك ،،ويارب متتاخريش علينا بباقي الحلقات ،،تحياتي وامنياتي لك بالتوفيق دايما يارب

    ردحذف
  2. السلام عليكم ,أنا أشتريت الرواية وحسيت أنها عمل درامي وأنها هتكون مسلسل جميل جدا ان شاء الله. ربنا يوفقك ومن نجاح لنجاح ان شاء الله

    ردحذف
  3. السلام عليكم ,أنا أشتريت الرواية وحسيت أنها عمل درامي وأنها هتكون مسلسل جميل جدا ان شاء الله. ربنا يوفقك ومن نجاح لنجاح ان شاء الله

    ردحذف
  4. ماشاء اللة جميل واسلوبك سهل

    ردحذف
  5. رائعة وأسلوب سهل ومشوق

    ردحذف

قول رأيك بلاش تقرا وتقفل من سكات...ارائكم تهمنى